التفسير المطول - سورة الفاتحة 001 - الدرس (1-2) :تفسير الأيات
1-2 ، كيفية الحمد
لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي بتاريخ: 1985-09-06
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمدٍ الصادق
الوعد الأمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن
وحول الشهوات إلى جنات القربات.
أيها الأخوة المؤمنون، نحن بدأنا تفسير كتاب الله من سورة لقمان،
ولم نختم بعدُ كتاب الله سبحانه وتعالى، ونرجو الله سبحانه وتعالى أن يمدنا جميعاً
بقوة منه، كي نتابع فهْمَ كتاب الله وتطبيقه والأخذَ به.
القرآنُ
الكريم جُمع في الفاتحة:
سوف نفسِّر إن شاء الله تعالى سورةَ الفاتحة، لأن هذه السورة عظيمة
القدرِ، وكما قال عليه الصلاة والسلام:
((
لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ))
سماها النبي عليه الصلاة والسلام أساس القرآن، وسماها أم القرآن،
وسماها فاتحة الكتاب، ولها عشرة أسماء، وقد جُمع القرآنُ في الفاتحة، لهذه الأسباب
كلِّها رأيت من المناسب أن أفسر سورةَ الفاتحةِ بعد السورِ القصيرة الأخيرة التي
خُتم بها القرآن الكريم.
أولاً يقول ربنا سبحانه وتعالى:
﴿
فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ
(98) ﴾
أجمع العلماء أن كلمة أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ليست آية، لكن
النبي عليه الصلاة والسلام ما كان يقرأ القرآن الكريم إلا ويتعوذ بالله من الشيطان
الرجيم، امتثالاً لقوله تعالى:
﴿
فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ
(98) ﴾
العلماء قالوا مندوب أن نقرأها في غير الصلاة وواجب أن نقرأها في
الصلاة، فيجب أن نتعوذ بالله من الشيطان الرجيم في الصلاة ولكن سراً، تقول: سبحانك
اللهم وبحمدك، تبارك اسمك، وتعالى جَدُّك، ولا إله غيرك، سراً، ثم تتعوذ بالله من
الشيطان الرجيم سراً.
النبي
عليه الصلاة والسلام كان دائماً يتعوذ بالله ولاسيما في السورتين الأخيرتين:
أما البسملة فالأكثرُ على أنها تُقرأ جهراً، وأبو حنيفة رضي الله
عنه يرى أن تُقرأ أيضاً سراً، ومذهبُه رضي الله عنه يبدأ القراءة بقوله: الحمد لله
رب العالمين، لكن الأكثرَ على قراءة البسملة جهراً، أما التعوذ فيجمعون على أنه
يُقرأ سراً وهذا في الصلاة.
((
اسْتَبَّ رَجُلانِ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنَحْنُ
عِنْدَهُ جُلُوسٌ، وَأَحَدُهُمَا يَسُبُّ صَاحِبَهُ مُغْضَباً، قَدِ احْمَرَّ
وَجْهُهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنِّي لأَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ
قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ لَوْ قَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ
الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ))
إذا سافر عليه الصلاة والسلام وأدركه الليل ونزل في أرض فإنه كان
يقول:
((
يا أرض، ربي وربك الله، أعوذ بالله من شرك ومن شر ما فيك وشر ما خلق فيك، وشر ما
يدب عليك، أعوذ بالله من أسد وأسود، ومن الحية والعقرب، ومن شر ساكن البلد، ووالد
وما ولد))
النبي عليه الصلاة والسلام كان دائماً يتعوذ بالله ولاسيما في
السورتين الأخيرتين:
﴿
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ
غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ
شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5) ﴾
وأيضاً:
﴿
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِنْ
شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5)
مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6) ﴾
الأسماء
الحسنى كلها جمعت في كلمة "الله":
قال بعضهم: العوذ هو الالتجاء لقوي كي تتقي به الشر، وأما اللوذ
بمعنى لاذ به، الاحتماءُ بقويٍّ من أجل أن يجلب لك الخير، عاذ به، ولاذ به، عاذ
اتقاء للشر، ولاذ طلب الخير، فربنا سبحانه وتعالى يأمرنا أن نستعيذ بالله من
الشيطان الرجيم، وأما كلمة الله فهي اسم الله الأعظم الجامع للأسماء الحسنى كلها،
وهو عَلَمٌ على الذات، وأكبر أسماء الله اسم الله الأعظم، يجمع كل أسمائه، أعوذ
بالله، يعني أعوذ بالله الرحيم، أعوذ بالله الحكيم، أعوذ بالله اللطيف، أعوذ بالله
القوي، أعوذ بالله الغني، أعوذ بالله العادل، أعوذ بالله الفرد، الصمد، الواحد،
الأحد، القهار، الجبار، أعوذ بالله الودود، إذا قلت: الله، فإن الأسماء الحسنى
كلها جمعت في كلمة الله، لو قال قائل: أعوذ بالرحيم، والأمر محتاج إلى قوة، فهذه
الاستعاذة لا تصح، أما أعوذ بالله إن كنت تخاف شيئاً قوياً فَعُذْ بالله فهو
القوي، وإن كنت بحاجة إلى رحمة فعذ بالله فهو الرحيم، وإن كنت بحاجة إلى إمداد فعذ
بالله فهو رب العالمين، وإن كنت بحاجة إلى لطف فعذ بالله فهو اللطيف الخبير، وإن
كنت بحاجة إلى علم فعذ بالله فهو العليم الخبير، فكلمة أعوذ بالله يعني أنا ألتجئ
إلى الذات الكاملة التي جمعت الأسماء الحسنى كلها، قال تعالى:
﴿
وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ
يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(180)﴾
الله
سبحانه وتعالى حينما خلقنا رسم لنا منهجاً:
لِمَ سُمِّي الشيطان شيطاناً ؟ لأنه شَطَنَ، بمعنى ابتعد وخرج عن
طريق الحق، والله سبحانه وتعالى حينما خلقنا رسم لنا منهجاً، قال تعالى:
﴿
قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ
تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(38) ﴾
وقال:
﴿
قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا
يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا
يَشْقَى (123) ﴾
وقال:
﴿
إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ
عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا
بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) ﴾
ما
دمت على المنهج الإلهي فلا تخف ولا تحزن:
ما دمت على المنهج الإلهي فلا تخف ولا تحزن، قال تعالى:
﴿
يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ
مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ
مُسْتَقِيمٍ (16) ﴾
إذا اتبعت رضوان الله سبحانه وتعالى يهديك بمنهجه إلى سبلِ السلام،
سلام في بيتك، سلام في صحتك، سلام في أولادك، سلام في تجارتك، سلام في عملك، سلام
في ماضيك، سلام في حاضرك، سلام في مستقبلك، سلام في خريف عمرك:
﴿
يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ
مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ
مُسْتَقِيمٍ (16) ﴾
الشيطان
هو ذلك المخلوق الذي خرج عن المنهج القويم الذي رسمه الله لعباده المؤمنين:
عندما يطبق الإنسان المنهج الإلهي يَسْلَم، وللإيضاح أضرب مثلاً
بآلة ثمينة جداً، معها تعليمات دقيقة جداً من خبراء الشركة، إذا اتبعتَ التعليمات
فإن هذه الآلة تخدمك إلى أمد طويلٍ طويل، وإذا خالفتَ التعليمات فسوف تصاب بالعطب،
وتخسرها، وتخسر ثمنها، إذاً مَن هو الشيطان ؟ ذلك المخلوق الذي خرج عن المنهج
القويم، الذي رسمه الله سبحانه وتعالى لعباده المؤمنين، لذلك قال الله تعالى:
﴿
إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ
الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً
كَبِيراً(9) ﴾
من منا لا يحب أن يعيش حياةً سعيدة فيها سلام، وفيها رضا، فيها
طمأنينة، وفيها ثقة بالله، من منا لا يحب أن ينجو من الخوف، وأن ينجو من القلق، أن
ينجو من القهر، وأن ينجو من الألم:
﴿
يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ
مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ
مُسْتَقِيمٍ (16) ﴾
كل
مخلوق خرج عن المنهج الإلهي فهو شيطان:
إذاً الشيطان ذلك المخلوق الذي خرج عن المنهج الإلهي، وكل مخلوق
خرج عن المنهج الإلهي فهو شيطان، هناك شياطين الإنس، وهناك شياطين الجن، قال
تعالى:
﴿
إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآَتَيْنَاهُ مِنَ
الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ
قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) ﴾
يعني خرج عن طريقتهم الصحيحة، قال تعالى:
﴿
اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) ﴾
الطغيان خروج عن طريق الحق، والبغي خروج عن طريق الحق، والشطن خروج
عن طريق الحق، والفسق خروج عن طريق الحق، قال الله سبحانه وتعالى:
﴿
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ
الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ(1)﴾
وقال:
﴿
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ
لَهُ عِوَجاً (1) ﴾
يُحمد الله مرتين ؛ مرةً على خلق السماوات والأرض، ومرة على هذا
المنهج القويم الذي أنزله على أنبيائه.
ما
دمت في طاعة الله فأنت في ظلّ الله وذمته:
ملخص الكلام أن لله في الأرض منهجاً، وأن لله في الأرض قرآناً،
وشرَعَ لنا شرعاً، فما دمت ضمن الشرع فأنت في سلام، في حياتك الدنيا، ويوم تقوم
الساعة، ويوم تقوم القيامة، وأنت في جنات عدن خالداً فيها إلى أبد الآبدين، مادمت
وفق هذا المنهج، فإذا خرجت عنه تدفع الثمن، ما دمت في طاعة الله فأنت في ظل الله
وذمته، فإذا خرجت عن طاعته خرجت من حيّز ظله، تحمَّل المتاعب حينئذٍ، جاء أعرابي
النبي عليه الصلاة والسلام فقال: يا رسول الله عظني وأوجز، قال: قل آمنت بالله ثم
استقم، قال: أريد أخفَّ من ذلك، قال إذاً فاستعد للبلاء.
قضية واضحة كالشمس، إما أن تطبق التعليمات، وإما أن تستعد للبلاء،
قل أعوذ بالله من الشيطان، هذا المخلوق الذي طغى، والذي غوى، والذي بغى، والذي شطن
بمعنى ابتعد، وبعضهم قال: الشيطان من شاط، بمعنى احترق، احترق بنار البُعد، شقي
بالبعد، وقد قال عليه الصلاة والسلام:
((..
فالناس رجلان رجل بَرَّ تقي كريم على الله وفاجر شقي هين على الله..))
أي لو أن في الأرض إنساناً واحداً بعيداً عن الله، وهو يعيش سعيداً
رغْمَ بُعْده عن الله لكان هذا الدين باطلاً، ولو أن إنساناً واحداً كان متصلاً
بالله، وهو شقي في حياته رغمَ طاعته وتقواه لكان هذا الدين باطلاً، قال تعالى:
﴿
وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) ﴾
وقال:
﴿
مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ
حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ (97) ﴾
آيات
في كتاب الله تَعِدُ الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله بالتعويض الجزيل:
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، الرجيم أي البعيد، والأصح من كلمة
البعيد المُبعَد لأنه خرج عن طريق الحق، وشطن ابتعد فاحترق فأبعد، قال تعالى:
الشيطان يعدكم الفقر، الشيطان يخوفكم، الشيطان يأمركم بالفحشاء من طريق الأمر
بالفحشاء، يغريك بالمعاصي، يزين لك المعاصي، يعدك بالفقر، يوسوس لك إذا أنفقت مالك
تبقى فقيراً، ثماني آيات في كتاب الله تَعِدُ الذين ينفقون أموالهم بالتعويض
الجزيل قال تعالى:
﴿
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً
كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245) ﴾
وقال:
﴿
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ
لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ
الرَّازِقِينَ (39) ﴾
وقال:
﴿
وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (77) ﴾
الاستعاذة
بالله من الشيطان الرجيم في الصلاة واجبة:
إذاً:
﴿
فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيْمِ
(98) ﴾
إذا قرأته خارج الصلاة فهذا مندوب، أما إذا قرأته في الصلاة فهذا
واجب، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يعوذ بالله من كل شيء، من دار يدخلها، ومن
دابة يركبها، كان إذا ركب دابة يقول:
((
أعوذ بالله، اللهم إني أسألك خير هذه الدابة، وخير ما خُلقت له، وأعوذ بك من شرها،
وشر ما خلقت له.))
الاستعاذة بالله من دابة، من بيت، من عمل لا يرضي الله عز وجل، من
رفقاء السوء، من نزهة قد تكون فيها النهاية الوبيلة.
الإنسان المؤمن من علامة إيمانه أنه دائماً يتعوذ بالله من الشيطان
الرجيم أنْ يضله، أو أن يغريه، أو أن يفسده، أو أن يفتنه، أو أن يحمله على معصية،
أو أن يوسوس له، أو أن يبعده عن أهل الحق، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
هناك
معنيان للبسملة:
أما كلمة
﴿
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾
فلها حديث طويل، يقول الله سبحانه وتعالى في سورة النمل:
﴿
إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30)﴾
النبي عليه الصلاة والسلام من سنته المطهرة أنه كان يبدأ كل أفعاله
ببسم الله الرحمن الرحيم، ونحن نرى على مقدمة الكتب بسم الله الرحمن الرحيم، وفي
أكثر المجالات بسم الله الرحمن الرحيم، وأصبحت تقليداً، قد يكون الكتاب يتحدث عن
نظرية داروين، ويبدأ ببسم الله الرحمن الرحيم، البسملة خلاف المضمون.
الموضوع في
﴿
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾
أن هذه الباء حرف جر، أي أبدأ بسم الله، وأسماء الله كلها حسنى،
الرحمن الرحيم، كأن الكلام ناقص، هناك فعل يتعلق بهذه الباء، يعني أبدأ عملي بسم
الله، آكل بسم الله، أؤلف هذا الكتاب بسم الله، أصدر هذا الحكم كقاضي بسم الله،
فما معنى بسم الله ؟
إذا أردت أن تأكل، وقلت:
﴿
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾
هناك معنيان لهذه البسملة:
1ـ
المعنى الأول أن طعامك وشرابك وغير ذلك إنما هو من نعمِ الله عز وجل:
أن هذا الطعام الذي تأكله إنما هو من نعمِ الله عز وجل، فكل هذا
الطعام باسم الرزاق، كل هذا الطعام باسم المغني، بسم المقيت، بسم المجيد، بسم
الواهب، بسم اللطيف، بسم الله، الله كما قلت قبل قليل: اسم جامع لأسماء الله
الحسنى، فإذا قلت: باسم الله فالبسملة بحسب الموضوع الذي أنت بصدده، فإذا أكلت،
وقلت: بسم الله الرحمن الرحيم، يعني أنك آمنت بأن هذا الذي تأكله من صنع الله فهل
فكرت في ذلك ؟ وأن الله سبحانه هو الرزاق، قال تعالى:
﴿
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً
فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71)﴾
إذا شربت كأس ماء وقلت بسم الله الرحمن الرحيم، هل فكرت في أن هذا
الماء أصله شمس سُلطت على بحار شاسعة، فتبخر ماؤها، وتقطر، وأصبح بخاراً عالقاً في
الجو، واجتمع سحباً ساقته الرياح إلى أرض عطشى، أنزله الله بفضله وبقدرته ماءً
ثجاجاً أنبت به الزرع والزيتون، أودعه في الجبال، فجره ينابيع، أساله أنهاراً،
فالشمس ساهمت في هذا الكأس، والمجرات، والأنواء، والمناخ، والرياح، والحرارة،
والبرودة، والجبال، فإذا قلت:
﴿
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾
أي هل فكرت بسم الرزاق، باسم المعطي، باسم الواهب، باسم الغني،
﴿
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾
يعني أشرب الكأس بسم الله الرحمن الرحيم.
2ـ
المعنى الثاني أن لله في خلقه سنةً:
أن لله في خلقه سنةً، في شرب الماء إذا قلت:
﴿
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾
فلا ينبغي أن تشرب الماء خلاف السنة، أن تشربه مصاً، ولا تعبه
عباً، أن تشربه على ثلاث مراحل، أن تشربه وتحمد الله عز وجل، أن تبعد الإناء عن
فيك، ألا تتنفس في الإناء، هذه سنة النبي المطهرة، نهانا عن التنفس في الإناء.
الآن ثبت أن هناك أمراضاً تنتقل عدواها عن طريق الزفير الذي يختلط
بالماء المشروب، فقال عليه الصلاة والسلام:
((
أَبِنْ القدح عن فيك.))
بين الشربتين أَبِنْ القدح عن فيك، لئلا يختلط النَفَس بالماء،
وكان عليه الصلاة والسلام قد قال:
((
مصوا الماء مصاً ولا تعبوه عباً، فإن الكباد من العب.))
مرض الكبد يأتي من عب الماء، وكان عليه الصلاة والسلام إذا شرب حمد
الله وكل هذا من سنته المطهرة، إذا قلت:
﴿
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾
لها معنيان، الأول: هل فكرت في هذه النعم ؟ والثاني: هل أنت مطبق
سنة رسول الله في شرب الماء ؟ هذا في الشرب.
على
الإنسان أن يحمد الله ويشكره على نعمه في كل حركاته وسكناته:
في الطعام، قال تعالى:
﴿
يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا
وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)﴾
كلوا واشكروا له:
((
الحمد لله الذي أطعمني فأشبعني، وسقاني فأرواني.))
((
إن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة فيحمده عليها ويشرب الشربة فيحمده عليها.))
ليرضى عن العبد، يعني إذا أكل الإنسان وشبع فليقل: الحمد لله، فإذا
قلت: بسم الله فهذه التسمية تعني أنْ فَكِّر في هذه النعم، وأنها من رزق الله
تعالى، وطبق أمر الله في الطعام، وإذا دخلت البيت وقلت:
﴿
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾
قال الله عز وجل:
﴿
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ
حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا (27)﴾
إذاً بيوتكم أولى بالسلام على مَن فيها، والنبي صلى الله عليه وسلم
قال فيما معناه: إن الرجل إذا دخل بيته ولم يسلم على أهله قال الشيطان وجدنا
المبيت، فيبيت الشيطان في المنزل، ويعيث فيه فساداً ما شاء له أن يعبث تلك الليلة،
إذاً إن هذا أمر الله، وهو أن تسلم إذا دخلت المنزل، وإذا قلت: بسم الله، وفتحت
باب المنزل، فلتقل أيضاً: الحمد لله الذي آواني، فكم من الناس من لا مأوى له، هل
شعرت أن هذه نعمة، نعمة المأوى كبيرة جداً ؟ كم ممن لا مأوى له، في أكثر دول شرقي
آسيا ينام الناس على الأرصفة، يتخذون بيوتاً قوارب في الأنهار، في بعض الدول
الفقيرة تشاهد الآلاف ينامون هم وزوجاتهم وأولادهم على الرصيف، وصار ذلك منظراً
مألوفاً جداً في بلادهم، فإذا كنت في بيت وفتحت باب البيت وقلت:
﴿
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾
فمعنى ذلك: الحمد لله الذي آواني، وتذّكرت كم من الناس مَن لا مأوى
له.
بسم
الله تجعلك على بصيرة من الأمر:
هل رأيت نعم الله عز وجل ؟ إذا فتحت الماء لتتوضأ، وقلت: بسم الله
الرحمن الرحيم، هل عرفت أن هذه نعمة لا تُقدر بثمن، نعمة الماء داخل المنزل، الآن
إذا دخلت إلى البيت وقلت: بسم الله الرحمن الرحيم، يعني:
﴿
وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ (19) ﴾
((
أكرموا النساء فو الله ما أكرمهن إلا كريم، ولا أهانهن إلا لئيم، يغلبن كل كريم،
ويغلبهن لئيم، وأنا أحب أن أكون كريماً مغلوباً من أن أكون لئيماً غالباً.))
يعني البسملة، إذا قدت سيارتك وقلت: بسم الله الرحمن الرحيم،
فليبادر ذهنك إلى أين أنت ذاهب ؟ هل أنت ذاهب إلى مكان لا يرضي الله عز جل،
فيتناقض ذلك بين البسملة وبين هذا المكان، فتنثني عن ذهابك عندئذٍ وتعود إلى
صوابك.
هل تشكر الله على نعمة المركب ؟ هل تسخرها لعباد الله ؟ هل تعين
بها الضعيف ؟ هل تنقذ بها المريض ؟ القضية واسعة جداً، النبي عليه الصلاة والسلام،
قال:
((كل
أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله فهو أبتر.))
يعني: مقطوع الخير، ألَّفت كتاباً، هل تذكر في الكتاب شيئاً
باطلاً، فإذا كتبت في صدر صفحاته بسم الله، فإنك تدقق: هل هدفك من هذا التأليف
خالص لوجه الله أم تبتغي به السمعة والرفعة، بسم الله تجعلك على بصيرة من الأمر.
العلماء
حاروا في الفرق بين الرحمن والرحيم:
هذه البسملة تضعك أمام شيئين، تذكرك بنعم الله عز وجل، وأن هذا من
نعمة الله، وتذكرك بأمر الله في هذا الموضوع، في الطعام، في الشراب، في دخول
المنزل، في الخروج إلى السوق، وكان النبي الكريم يعوذ بالله من صفقة خاسرة إذا دخل
السوق، ويمينٍ فاجرة، يقول لك البائع: الله وكيلك بعتُك برأسمالها، وهو يكذب، لقد
باع دِينَه كله بكلمة واحدة، النبي كان يعوذ بالله من يمين فاجرة، ومن صفقة خاسرة،
فإذا جمع الإنسان مالاً من حرام فإنّ الله عز وجل يريه أن هذه الصفقة فيها ربح
وفير فيشتريها، ويكون إفلاسه عن طريقها، هذا الذي جمعه من حرام أذهبه الله في صفقة
خاسرة، فإذا دخل الإنسان إلى السوق فهناك بسملة، إذا دخل بيته فهناك بسملة، إذا
ركب في مركبة فهناك بسملة، إذا شرب الماء، إذا تناول الطعام، حتى إذا التقى مع
أهله فهناك بسملة، لئلا تأتيك ذرية سيئة، بسم الله، فهذه الباء تعني التجئ وألوذ
بسم الله، آكل بسم الله، أتزوج بسم الله، أدخل إلى بيتي بسم الله، دائماً هذه
البسملة تذكرك بأسماء الله الحسنى، وتذكرك بأوامره المثلى،
﴿
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾
وبعد فالحقيقة إن العلماء حاروا في الفرق بين الرحمن والرحيم.
قال بعضهم: الرحمن بخلقه جميعاً، والرحيم بالمؤمنين.
وقال بعضهم: الرحمن بجلائل النعم، والرحيم بدقائقها.
وقال بعضهم: الرحمن في الأولى، والرحيم في الآخرة.
وقال بعضهم: الرحمن في ذاته، والرحيم في أفعاله.
وهذا الأخير من أوجه التفسيرات، لأنك قد تلتقي بطبيب يرى مريضاً
فيسرع إلى إنقاذه أمام ملأ من الناس، فإنقاذُ هذا المريض يكسب الطبيبَ سمعةً طيبة،
فنقول: هذا الطبيب رحيم، لكن الطبيب لا ينطوي على رحمة في قلبه، بل فعَلَ هذا
ابتغاء السمعة، فهو رحيم، لكنه لم ينطلق في عمله من رحمة في قلبه.
الرحمة
الشيء الذي يرتاح له الإنسان فالله سبحانه وتعالى خلقنا ليرحمنا:
هناك فرق بين الرحمن والرحيم، الرحمن في ذاته، والرحيم في أفعاله،
ذاته رحيمة، وأفعاله رحيمة، الرحمن الرحيم، والرحمة شيء يبعث الراحةَ في النفس،
فالمطر من رحمته، تهطل الأمطار فتمتلئ الينابيع، وينبت النبات، وتثمر الأشجار،
ونأكل، وترخص الأسعار، فهذا من رحمته، والأبناء من رحمته، يبدلون سكون البيت حركة
وحياة، ويبعثون الأنس في البيت، وإذا كبر الابن يعين والديه، فالابن رحمة من الله،
قال تعالى:
﴿
وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ (84) ﴾
وهبنا له، فالرحمة كل شيء يرتاح له الإنسان، فأن تعمل هذه الأجهزة
عملاً منتظماً فهو من رحمة الله، وأن تأكل طعاماً لذيذاً فهو من رحمة الله، وأن
تشرب ماءً عذباً فراتاً فهو من رحمة الله، وأن تسكن إلى زوجة، تطيعك إذا أمرتها،
وتسرك إذا نظرت إليها، وتحفظك إذا غبت عنها، فهو من رحمة الله، وأن ترى طفلاً
كالملاك يتحرك في البيت، فهو من رحمة الله، وإن كان لك عملٌ يدرُّ عليك دخلاً فهو
من رحمة الله، وإذا ذهبت إلى بستان فمتعت النظر بجماله فهو من رحمة الله، وإذا هبت
نسمات لطيفة عَطَّلت عمل المكيفات، وأوقفته فهو من رحمة الله، وإذا كان الدفء فهو
من رحمة الله، فالرحمة الشيء الذي يرتاح له الإنسان، فالله سبحانه وتعالى خلقنا
ليرحمنا قال تعالى:
﴿
إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ
لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ(119)﴾
ليرحمنا في الدنيا، ويرحمنا في الآخرة، أما أن يقول الإنسان: سبحان
الله، خلقنا الله ليعذبنا، هذا كلام الشيطان، ما خُلقت يا أخي للعذاب بل خُلقت
للرحمة، كي يسعدك في الدنيا والآخرة.
الله
تعالى خلقنا ليرحمنا هذا هو الهدف الإلهي الكبير:
في الدنيا إذا آمنت بالله يمتعك إلى حين ويؤتي كل ذي فضل فضله، حتى
في الدنيا فيها سعادة، وفيها سرور لمن أطاع الله عز وجل:
﴿
مَّا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ ( 147)﴾
خلقنا ليرحمنا هذا هو الهدف الإلهي الكبير، ولكن العذاب الذي
يعذبنا الله به من صنع أيدينا، من معاصينا، من ضلالنا، من انحرافنا، من طغياننا،
مِن بُعْدِنا، ومن تقصيرنا، حتى الهمُّ يهتم له الإنسان إنه انعكاس لأعماله
الزائغة.
بعضهم قال: هذه البسملة ينبغي أن تدور مع الإنسان في كل نواحي
حياته، وفي كل نشاطاته، إذا قام ليتوضأ، إذا دخل البيت، إذا قام ليأكل، إذا قام
ليشرب، قمت لتأكل فقلت بسم الله الرحمن الرحيم، النبي أمرنا بالوضوء قبل الطعام،
ووضوء الطعام ليس وضوءاً كاملاً، غسل اليدين والفم فقط:
((
وبركة الطعام الوضوء قبله، والوضوء بعده.))
أجمع العلماء على أن وضوء الطعام غير وضوء الصلاة، وضوء الطعام غسل
اليدين والفم، كنت في الطريق، غبار، صافحت إنساناً، أمسكت بحذائك، يعني هذه اليد
أمسكت بأشياء كثيرة، بركة الطعام الوضوء قبله، فلو قمت إلى الطعام فقلت: بسم الله
الرحمن الرحيم، قف اذهب واغسل يديك وفمك، هذا معنى
﴿بِسْمِ
اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾
تسمية
الفاتحة بعدة أسماء:
قال تعالى:
﴿
الحمد لله رب العالمين(2) ﴾
الآن نبدأ بالفاتحة، الفاتحة سماها النبي عليه الصلاة والسلام
الصلاة، لقوله:
((
لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب.))
شيء آخر سُميت الفاتحة بسورة الحمد لأنها مصدرة بالحمد لله رب
العالمين، وسميت فاتحة الكتاب لأن القرآن الكريم افتتح بها، وسميت أم الكتاب، وأم
الشيء أصله، ربنا عز وجل قال:
﴿
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ
أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ (7) ﴾
آيات الفاتحة كلها آيات محكمات، الفاتحة سماها النبي عليه الصلاة
والسلام أم الكتاب، وسُميت أم القرآن، فقد قال عليه الصلاة والسلام:
((الحمد
لله أم القران وأم الكتاب والسبع المثاني.))
سميت الشفاء، لأنه عليه الصلاة والسلام قال:
((
في فاتحة الكتاب شفاء من كل داء.))
سُميت الأساس، أساس الكتاب القرآن، يعني أساس الكتب السماوية
القرآن، وأساس القرآن الفاتحة، وسُميت الوافية، وسميت الكافية، فقد قال عليه
الصلاة والسلام:
((
أم القرآن عوض عن غيرها، وليس غيرها عوضاً عنها.))
وقد ورد في تفسير القرطبي:
" إن جميع القرآن فيها ".
أذكر حديثاً روى عن الحسن البصري ـ رحمه الله ـ أنّ الله أنزل مئة
كتاب وأربعة كتب، جمع سرّها في الأربعة، وجمع سرّ الأربعة في القرآن، وجمع سرّ
القرآن في الفاتحة، وجمع سرّ الفاتحة في هاتين الكلمتين:
﴿إِيَّاكَ
نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾
قال النبي عليه الصلاة والسلام:
((
إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، أو يشرب الشربة فيحمده
عليها.))
الحمد
على النعمة أفضل من النعمة نفسها:
سأتلو عليكم حديثاً شريفاً يبعث في أنفسكم الطمأنينة هو:
((
الحمدُ على النعمة أمانٌ لزوالها.))
أية نعمة تحمد الله عليها لن تزول، ولن تضيع، وأن تقول الحمد لله
على النعمة أمان من زوالها، وهناك حديث دقيق جداً يقول الحسن: " ما من نعمة
إلا والحمد لله أفضل منها." كيف ؟
يعني إذا أعطاك الله نعمة الصحة، وكنت شديداً عتيداً قوياً نشيطاً كالحصان، لا بد
من سنوات تمضي وتمضي حتى يأتي الأجل، ويموت الإنسان فأين هذه النعمة ؟ زالت، لكنك
إذا حمدت الله عليها، وارتقت نفسك في مدارج الحمد، وسَمَتْ سعدت بحمدك إلى الأبد،
إذاً الحمد على النعمة أفضل من النعمة نفسها قال الحسن: "ما من نعمة إلا والحمد لله
أفضل منها ".
لو أنك وهبت زوجةً صالحة، فأعانتك على متاعب الحياة، وحصنتك، وسكنت
إليها، فلا بد من ساعة تفارقها، أو تفارقك، إما أن تفارقها أولاً، وإما أن تفارقك
أولاً، لكنك إذا حمدت الله على نعمة الزوجة الصالحة فإنّ هذا الحمد تسعد بثوابه
إلى أبد الآبدين.
الحمد
لله على النعمة أمان من زوالها:
لذلك لقي أحدُهم شريحاً القاضي، فقال: يا شريح كيف حالك في بيتك ؟
قال: منذ عشرين سنة لم أجد ما ينغص حياتي، أو يعكر صفائي، قال: وكيف ذلك ؟ قال:
خطبت امرأة من أسرةً صالحة، فلما خلوت بها، صليت ركعتين شكراً لله على نعمة الزوجة
الصالحة، فلما سلمت وجدتها تصلي بصلاتي، وتسلم بسلامي، وتشكر بشكري، فلما دنوت
منها قالت: على رسلك يا أبا أمية، إني امرأة غريبة، لا أعرف ما تحب، ولا ما تكره،
فقل لي ما تحب حتى آتيه، وما تكره حتى أجتنبه، ويا أبا أمية لقد كان لك من نساء
قومك من هي كفء لك، وكان لي من رجال قومي من هو كفء لي، ولكن كنت لك زوجة على كتاب
الله وسنة رسوله، فاتقِ الله فيّ، وامتثل قوله تعالى:
﴿
الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا
يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آَتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ
يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا
حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ
اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ
الظَّالِمُونَ (229) ﴾
قال: ثم قعدتْ، يعني هذه الزوجة الصالحة تنتظر ردّ زوجها، ذكرت هذه
القصة للإفادة مما فيها من عِبر، فالقاضي شريح، حينما دخل على زوجته الصالحة صلى
ركعتين صلاة الشكر، إذاً الحمد على النعمة آمان من زوالها، أية نعمة، نعمة الصحة
لن تزول، يمتعك الله بسمعك، وبصرك، وعقلك، وقوتك ما أحياك، هل تغض الطرف عن محارم
الله هذه العين لن تُفجع بها، هل تمسك أذنك عن سماع أي صوت لا يرضي الله، هذه
الأذن لن تفجع بها، هل ينطق لسانك بالحق، ولا ينطق بالباطل، هذا اللسان لن تُفجع
به، هذه الذاكرة، تستخدمها لماذا ؟ بالحق أم بالباطل ؟ إن استخدمتها في حفظ كتاب
الله، وحفظ أحكام الله، وحفظ الأحاديث الشريفة، فإن الله سبحانه وتعالى لن يفجعك
بها، وهذه اليد، وهذه القوة وغير ذلك من النعم، فالحمد لله على النعمة أمان من
زوالها.
كلمة
الحمد لله أفضل عند الله من الدنيا وما فيها:
قال عليه الصلاة والسلام:
((
ما أنعم الله على عبد نعمة فقال الحمد لله إلا كان الذي أعطاه أفضل مما أخذ))
العبد ماذا أعطي ؟ هذه الكلمة، كلمة الحمد لله، هذه الكلمة التي
أعطاها العبد لربه أفضل عند الله مما أخذ، لو أخذ بيتاً ثمنه خمسة ملايين، وقال:
يا رب لك الحمد، فكلمة الحمد لله أفضل عند الله من هذا البيت، لأن هذا البيت مصيره
إلى الخراب، لكن هذا الحمد يسعد به الإنسان إلى الأبد، وقد قال عليه الصلاة
والسلام:
((
لو أن الدنيا كلها بحذافيرها بيد رجل من أمتي ثم قال الحمد لله لكانت الحمد لله
أفضل من ذلك كله.))
الدنيا بحذافيرها يعني بيوتها الفخمة، وبساتينها النضرة، ومالها
الوفير، ونساءها الجميلات، ومراكبها الفخمة، كلمة الحمد لله يعني أنك تعرف الله،
وإذا عرفته عرفت كل شيء وإذا فتّه فاتك كل شيء، لو أن الدنيا بحذافيرها بيدك وقلت:
الحمد لله، فكلمة الحمد لله أفضل عند الله من الدنيا وما فيها.
لذلك العلماء حاروا أيهما أفضل، الحمد لله، أم لا إله إلا الله ؟ هناك أقوال تقول:
إن الحمد لله أفضل، وبعضهم قال: لا إله إلا الله أفضل، لكن كلمة الحمد لله هي
الحمد الأولى في كتاب الله تبارك:
﴿
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) ﴾
أما الحمد، لمَ لم يقل الله عز وجل حمداً لله رب العالمين، بل قال
سبحانه: الحمد لله ؟ قالوا: هذه الألف واللام لاستغراق الحمد كله، يعني الحمد كله
بحذافيره كله، وجزؤه ـ مهما كان حجمه ـ صغيره وكبيره لله عز وجل.
أرحم
الخلق بالخلق النبي عليه الصلاة والسلام:
لا يوجد جهة أخرى تستحق الحمد إلا الله، أبداً، أصغِ سمعك إلى قول
ربنا عز وجل:
﴿
فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ
الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ
وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ
اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) ﴾
سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أرحم الخلق بالخلق، لو جمعت رحمة
أمهات الأرض منذ آدم إلى يوم القيامة لا تعادل رحمة النبي بأمته، قال تعالى:
﴿
لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ
حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ(128)﴾
((
أرحم أمتي بأمتي أبو بكر وأشدهم في أمر الله عمر... ))
أما أرحم الخلق بالخلق النبي عليه الصلاة والسلام، يعني أرحم بك من
نفسك، ومع ذلك قال الله عز وجل:
﴿
فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ
الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ
وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ
اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) ﴾
الرحمة
كلها من الله والنبي عليه الصلاة والسلام أوتي طرفاً منها:
قال ربنا عز وجل:
﴿
وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا
لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ
مَوْئِلاً (58) ﴾
ما الفرق بين "رحمة" المُنكَرة في آية آل عمران،
و"الرحمة" المُعرَّفة في آية سورة الكهف ؟ قال هذه الرحمة الثانية، هذه
ليست أل التعريف، إنما للاستغراق، يعني الرحمة كلها من الله، والنبي عليه الصلاة
والسلام أوتي طرفاً منها.
الآن الحمد كله لله، ذكرت قصة قبل شهر أو أكثر أن الحَجَّاج أمر
بضرب أعناق عشرة رجال، فأذن المغرب، وبقي رجل لم تضرب عنقه، فقال لأحد وزرائه: خذه
إلى بيتك وائت به غداً، هذا الرجل في الطريق قال له: والله لم أخرج على طاعة
الأمير، وما آذيتُ أحداً من المسلمين، فهل تأذن لي أن أذهب لأهلي فأوصي قبل أن
أموت وأرى أولادي، واكتب وصيتي، فضحك هذا الوزير وقال: أو مجنون أنا ! فقال: عهداً
لله إن أطلقتني لأعودَنَّ إلى بيتك قبل الفجر، فما زال هذا الرجل يقنعه حتى سمح
له، فلما سمح له شعر بضيق لا يُحتمل، قال: نمتُ أطول ليلة في حياتي، لأنه سيموت
مكانه غداً ـ مكان الرجل ـ إن لم يرجع، ما إن أذن الفجر حتى طُرق الباب، وجاء هذا
الرجل الذي عاهده على أن يعود، جاء ليموت، فلما كان الغد ذهب به إلى الحجاج فقال
له: سأنبئك بما حصل البارحة، فلما أنبأه قال له الحجاج: أتحب أن أهبه لك، قال:
نعم، قال: إذاً هو لك، يعني ما دام عنده هذا الوفاء عَفَوْنا عنه، فلما خرج قال
له: يا هذا اذهب لوجهك، فهذا الذي عُفي عنه لم يتكلم، ولم ينظر إليه، ولم يشكره،
ولم يقل كلمة، إلا أنه توجه إلى السماء، وقال: الحمد لله.
هذا الذي سعى بإطلاق سراحه وتخليصه من الموت المحتم تألم ! لو أنه
شكرني، قال: ثم جاءه بعد ثلاثة أيام و قال: أحمدك على عملك، ولكنك حين قلت لي:
اذهب لوجهك كرهت أن أحمد مع الله أحداً.
الحمد
لله رب العالمين أساس معرفة العبد بربه:
الإنسان أحياناً يلوح له شبح مصيبة، كأن يصاب بورم لم يعرف أهو
خبيث أم غير خبيث ؟ أجرى تحليلاً، فإذا هو ورم طبيعي، أول شيء عليه أن يقول: الحمد
لله رب العالمين، ولا تحمد مع الله أحداً.
هناك التهاب في السحايا على وشك الوفاة مع الابن الأصغر، فنجا من الموت بتوفيق
الله وقدرته، لا تقل: واللهِ إنّ الطبيب لا يفهم، قال لي: اجرِ تحليلاً في وقت
مبكر قل: الحمد لله رب العالمين، فلذلك الحمد لله رب العالمين أساس معرفة العبد
بربه، هناك حديث دقيق جداً، يقول عليه الصلاة والسلام:
((
الحمد رأس الشكر ما شكر الله عبد لا يحمده.))
قال بعضهم: الحمد حالة نفسية، والشكر سلوك، فليس هناك سلوك شاكر
إلا على أساس حالة حمد، فإذا لم يكن عند الإنسان حالة حمد فسلوكه باطل، وهو في
حالة نفاق ومداهنة:
((
الحمد رأس الشكر ما شكر الله عبد لا يحمده.))
الحمد أولاً والشكر ثانياً، قال تعالى:
﴿
اعْمَلُوا آَلَ داود شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13) ﴾
الشكر عمل،
﴿
اعْمَلُوا آَلَ داود شُكْراً ﴾
أما الحمد فهو حالة نفسية، أحياناً يقدم لك إنسان خدمة تحس أنك
ممتن من أعماقك منه، تعبر عن الامتنان أحياناً بخدمة، أحياناً بكلمة طيبة، أحياناً
بقولك جزاك الله عني كل خير، ولكن هذا الكلام أو هذه الخدمة أساسها حالة نفسية
شعرت بها هذا هو الحمد.
نعمة
الرضا أكمل نعمة:
أنت في الصلاة تصلي الفرض، الفروض فقط في اليوم سبعة عشر ركعة،
ومثلها سنن، يعني تقول: الحمد لله في الصلاة حوالي أربعين مرة، هل أنت في مستوى
هذه الآية ؟ يعني راض عن الله عز وجل، راض عن صحتك، عن دخلك، عن ضيقك، عن عملك،
راضٍ وأنت من أصحاب الدخل المحدود، أم ترى نفسك دائماً أنك محروم، إذا كان دخل
الرجل محدوداً مثلاً يقضي عمره كله غير راضٍ، بينما يجد بائع فلافل دخله خمسة آلاف
وهو أميّ، يقول صاحب الدخل المحدود: أنا حائز على شهادة ليسانس، ودخلي فقط ألف
ومائتان بالشهر تقريباً، فهو دائماً غير راضٍ، أما إذا كان مؤمناً وقال: الحمد لله
رب العالمين، فليس عنده حرمان أبداً، إن نعمة الرضا أكمل نعمة، لو جاءك مئة مليون
في الشهر وأنت على ضلال فالنهاية إلى جهنم، أما المؤمن فكلمة الحمد لله رب
العالمين تدل على أنه راضٍ عن الله عز وجل: يا رب هل أنت راضٍ عني ؟ قال: يا عبدي
هل أنت راض عني حتى أرضى عنك.
هل أنت راض عن الله عز وجل ؟ هل تقول الحمد لله من أعماقك، من
أعماق أعماقك ؟ أراضٍ، وليس عندك إلا بنات فقط، وليس عندك ولا ذكر واحد، فهل أنت
راضٍ ؟ هل رأيت حكمة الله عز وجل أنه يحبك على هذا، ليس عندك أولاد إطلاقاً، بل
عقيم راض عن الله عز وجل، عندك زوجة سيئة الخلق، فهل أنت راض بها ؟ هل ترى أن الله
شاءت حكمته أن تكون كذلك ؟ لك عمل محدود دخله، أنت في مرض عضال مزمن بشكل مستمر
تعاني من بعض الأمراض هل تقول الحمد لله رب العالمين ؟ هذه البطولة.
ليس من يقطع طرقاً بطلاً إنما من يتق الله البطل
***
الحمد لله في السراء
والضراء ، في الغنى والفقر ، في القوة والضعف ، في إقبال الدنيا وإدبارها ، في
الرفعة والضعة ، في العز والذل ، الحمد لله على كل حال ، الحمد لله الذي لا يُحمد
على مكروه سواه ، المكروه نعمة ، لكنه نعمة باطنة .
الله
سبحانه وتعالى أمرنا أن نحمده وألا نحمد أحداً معه :
الله سبحانه وتعالى أمرنا
أن نحمده ، وأمرنا ألا نحمد أحداً معه كيف ؟ قال تعالى :
﴿
الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ
إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ
الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا
أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32)﴾
مثلاً
نراك تحاضر محاضراتٍ كثيرة عن زيد وعبيد ، وقد تكون مجانباً الحق في كثير مما
تحاضر، إذاً فإنه لا يستحق الحمد إلا الله ، وإذا سئلت تقول : الله أعلم بحاله ذلك
علمي به ، وعن الصديق تقول : ذلك علمي به ، فإن بدل وغير فلا أعلم الغيب ، لم
اختار سيدنا أبو بكر سيدنا عمر ؟ ألم يقل : لا أعلم من هو خير منه ؟ وقال : ذلك
علمي به فإن بدل وغيّر فلا أعلم الغيب ، الله قال :
﴿
فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32)﴾
هنيئاً
لك أبا السائب لقد أكرمك الله ، كان النبي عليه الصلاة والسلام عند صحابي متوفى ،
كشف عن وجهه فقبله ، سمع امرأة تقول :
((
هنيئاً لك أبا السائب الجنة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "وما
يدريك يا أم معاذ ؟ أما هو فقد جاءه اليقين ولا نعلم إلا خيراً .))
﴿
فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32)﴾
الحمد
أنواع وقد جُمع كل هذا في الفاتحة :
لذلك الحمد لله وحده ، أما
البشر فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى ، كانوا قديماً إذا كلفوا إنساناً ليزكي
إنساناً آخر لزواج أو لشهادة يكتب : أعلم منه الصلاح والتقى ، والله أعلم ، معنى
والله أعلم قد يكون غير ذلك ، قد يكون منافقاً ، والله أعلم ، فالإنسان ليس مكلفاً
ليقيّم الآخرين ، وليس أهلاً لذلك ، ولا يملك الأداة الصحيحة ، قال عليه الصلاة
والسلام :
((
احثوا في وجه المداحين التراب .))
((إن
الله يغضب إذا مدح الفاسق في الأرض .))
مثلاً
رجل يشرب الخمر تقول عنه : أكابر ، أخلاقه عالية ، لبق جداً ، ما معنى قولك لبق
جداً ؟ أيُّ لباقة هذه على شرب الخمر ، وعلى ترك الصلاة ؟ فهذا الذي يقوله الناس
عن بعض الناس رغم شربهم للخمر ، ورغم تركهم للصلاة ، ورغم أكلهم للربا ، إنّ
أخلاقه عالية ، لبق ، هذا كلام باطل :
((إن
الله يغضب إذا مدح الفاسق في الأرض .))
العلماء
قالوا : هناك حمد لذات الله ، وهناك حمد له لنعمة سبقت منه ، وهناك حمد له لنعمة
ترجوها منه ، وهناك حمد له خوفاً منه ، إذاً الحمد أنواع ، وقد جُمع كل هذا في
الفاتحة .
الحمد لله لذاته ، فالإنسان أحياناً تحمده من دون أن
يصيبك من خيره شيء ، وقف موقفاً أخلاقياً أمامك من شخص آخر ، هذا الموقف الأخلاقي
تحمده عليه ، مع أنك لست معنياً بهذا الموقف ، وقد ينعم عليه فتحمده ، الحمد لله
لذاته ، رب العالمين لنعمه ، الرحمن الرحيم لما نطمع من رحمته، مالك يوم الدين
خوفاً منه .
الحمد
في بادئ الأمر إنشاء وفي نهاية الأمر واقع ثابت :
بعضهم قال : ربنا عز وجل
بدأ قرآنه الكريم بالحمد لله رب العالمين ، وآخر كلمة يقولها الناس وهم يدخلون
الجنة :
﴿
دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ
وَآَخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(10)﴾
أَمَرنا
أن ننشئ الحمد كما هو الحال في الفاتحة ، وفي نهاية الحياة كان الحمد واقعاً كما
في آية سورة يونس السابقة ، أحياناً يقول لك أحد الناس : اشكرني ، ويعاملك معاملة
سوء ، أي شكر هذا ؟ أساء لك المعاملة ، ويطلب منك أن تحمده ، لكن ربنا عز وجل أمرك
أن تحمده وبعد أن اتصلت به، وسعدت بقربه تحمده ، تحمده على نعمه التي وقعت ، إذاً
الحمد في بادئ الأمر إنشاء ، وفي نهاية الأمر واقع ثابت .
شيء
آخر ، الحمد لله على أنه أوجدنا ، والحمد لله على أنه بث فينا الروح ، والحمد لله
على أنه أمدنا بالطعام ، والشراب ، وكل ما نحتاج ، والحمد لله على أنه قومنا ،
الأمراض ، والهموم ، والمتاعب ، والأحزان ، هذه كلها ألفاظ خفية من أجل التقويم ،
هناك نعمة الإيجاد ، ونعمة الخلق ، ونعمة الإمداد ، ونعمة الرزق ، ونعمة الحياة
الروحية ، ونعمة الهدى ، ونعمة التقويم .
نعمة
الإيجاد ، ونعمة الإمداد ، ونعمة الهدى ، ونعمة التقويم أربع نعم كبرى .
الله
سبحانه وتعالى شعر بعجزنا عن حمده فعلمنا كيف نحمده :
هناك شيء آخر ، الحمد لله
على ما أعطى ، أن تعرف أن هذه النعمة من الله عز وجل ، أن تعرف من أعطاك ، وأن
ترضى بما أعطاك ، وألا تعصي الله فيما أعطاك ، هذا من معاني الحمد، آخر شيء في
الحمد ، مع أن هذه الآية تنقضي الأيام ، ولا ينقضي شرحها ، ولكنّ أخذَ القليل خيرٌ
من تركِ الكثير :
﴿
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ
الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ(1)﴾
وقال :
﴿
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ
لَهُ عِوَجاً (1)﴾
إنّ
نعمة الهدى كما في آية الكهف تعادل نعمة الخلق كما في آية الأنعام ، والحمد لله
الذي له ما في السماوات والأرض ولم يكن لغيره ، إن الإنسان لئيم ، فلو كان الأمر
والخلق لغيره لمُنع الناس القطر ، ولكن الله سبحانه وتعالى يعلمنا أن نحمده الحمد
لله الذي له ما في السماوات والأرض .
﴿
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾
قالوا
: جمعت هذه الآية نعمة الهدى ، ونعمة الإمداد ، وأكبر نعمة هي أن الله سبحانه
وتعالى علمنا كيف نحمده :
((قال
موسى : يا رب كيف شكرك ابن آدم ؟ فقال : علم أن ذلك مني فكان ذلك شكره .))
نحمد
الله بطريقة علمنا إياها الله سبحانه وتعالى ، شعر بعجزنا عن حمده فعلمنا كيف
نحمده .
الرضا
بمكروه القضاء أرفع درجات اليقين :
كلمة الحمد لله يقولها
الناس في اليوم آلاف المرات ، كيف حالك ؟ يكون ملحداً ويقول : الحمد لله ، وهي من
فلتات اللسان عنده ، لكن إذا وقفت على معانيها تماماً تذوب محبة لله على كل شيء ،
فإذا كان فهمك عميقاً جداً تحمده على المصيبة :
((
إذا أحب الله عبده ابتلاه ، فإن صبر اجتباه ، فإن رضي اصطفاه .))
تعاني
من مصيبة مزعجة ، ولعلمك برحمة الله ، وحكمته ، ولطفه ، وحرصه على هدايتك ، وحرصه
على إسعادك ، ففي أثناء المصيبة تقول : الحمد لله رب العالمين على هذه المصيبة ،
إنها عناية من الله ، وأحياناً يقسو المعلم على تلميذه كي يكون الأول في الصف ،
فإذا صار الأول يحمده على قسوته لا على جوائزه ، نعم بحمده على قسوته ، كذلك إذا
عرفت الله حق المعرفة تحمده على المصائب ، قال سيدنا علي كرم الله وجهه : "
الرضا بمكروه القضاء أرفع درجات اليقين" .
أعلى
درجة في اليقين برحمة الله أن ترضى بمكروه القضاء ، القضاء الذي لا تحبه ، الرضا
بمكروه القضاء أرفع درجات اليقين ، والحمد لله تعني معرفة الله ، علامة أنك تعرفه
، وأنك تحمده ، تعرفه فتحمده ، أما إذا كنت لا تعرفه فلا تحمده .
والحمد لله رب العالمين