حينما يظنُّ الإنسان أن الحياة هي كل شيء، وأن السعيد فيها من كان غنيَّاً، وأن الشقي فيها من كان فقيراً، وأن الموت نهايتها، هذه النظرة التي ينظر الناس من خلالها إلى الدنيا هي نظرةٌ مُهْلِكَة، لأنَّك نقلت كل اهتماماتك إلى الأرض، إلى الدنيا، والدنيا قد تأتي أو قد لا تأتي، قد تُقبِل عليك فيختلُّ توازنك، وقد تُدبر عنك فتيأس، لكنَّك إذا نقلت اهتمامك إلى الدار الآخرة عندئذٍ يرضيك فيها كل شيء.
فما من واحدٍ منَّا إلا وله فلسفة شاء أم أبى، كانت هذه الفلسفة عن وعيٍ أو عن غير وعيٍ، فالذي يظنُّ أن الدنيا كل شيء يُقْبِلُ عليها بنَهَمٍ شديد، ينام ويحلم بمباهجها، ببيوتها، بنسائها، بمالها، والذي يظنُّ الآخرة كل شيء هو العاقل.
مثلاً: لو أن إنساناً كان على وشك الموت عطشاً، وبقي له كي يموت عطشاً ساعة، وقيل له: هناك سبعة أمكنة يُظَنُّ أنّ فيها ماء، وتحتاج إلى ساعة لتصل إلى كلٍ منها، والماء في واحدٍ منها، فأي خطأٍ في التوجُّه معناه الموت المُحقَّق، يوشك هذا الإنسان أن يموت عطشاً، والأطبّاء قدَّروا له ساعة، بعد هذه الساعة يلفِظُ أنفاسه الأخيرة، هو في صحراء قيل له: في هذا المكان نبع، أو في هذا المكان، أو في هذا المكان، أعطوه سبعة أمكنة ثم قالوا له: حقيقةً الماء في مكانٍ واحد من هذه السبعة، فهل ينطلق الإنسان إلى أحد هذه الأمكنة قبل التروِّي وقبل البحث؟ لأن انطلاقه إلى أحد هذه الأمكنة قبل التأكُّد من أن الماء فيها معناه موتٌ محقَّق.
فشيء خطير جداً يُقال عنه: مصيري، أي مصيرك إلى الأبد، سعادتك إلى الأبد، شقاؤك إلى الأبد مَنوطٌ بهذا الكتاب، هذا منهجك في الحياة، فربنا -عزَّ وجل- جعل الدنيا دار تكليف وجعل الآخرة دار تشريف، أي أنّ العطاء في الآخرة، والنعيم المقيم في الآخرة، والجنَّة التي عرضها السماوات والأرض في الآخرة، لكن الدنيا دار عمل، دار جِدٍ، دار كسبٍ..
" شمِّروا فإن الأمر جِد، وتأهَّبوا فإن السفر قريب، وتزوَّدوا فإن السفر بعيد، وخفِّفوا أثقالكم فإن في الطريق عقبةً كؤود، وأخلصوا النيَّة، فإن الناقد بصير " .
وَإِنْ تعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ
إنكار البعث فلسفة الجهلة والسفهاء:
﴿وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ لو فكَّروا في خلق السماوات والأرض لمَا قالوا هذا الكلام، لو رأوا صنعة الله -عزَّ وجل- فعرفوا من خلالها عظمة الخالق لما شكُّوا في أن الله -سبحانه وتعالى- سيحقِّق وعده ويبعث من في القبور، لو فكَّروا في ملكوت السماوات والأرض، لو فكَّروا في خلقهم، لو فكروا في طعامهم، في شرابهم، لو فكروا في مظاهر الطبيعة التي أمامهم لَمَا قالوا:
﴿أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ هذا القول يقوله الجاهل، أنت أمام صاحب معمل ضخم لصناعة أعظم الآلات تقول له: هل تستطيع أن تصنع آلةً صغيرة؟ لو وقفت أمام صناعته الدقيقة والكبيرة والجبَّارة لمَا سألت هذا السؤال، دليل أنَّك لا تعرفه إطلاقاً، لأنك طرحت هذا السؤال فإنك لا تعرفه.
إنه لقول عجيب:
﴿وَإِنْ تَعْجَبْ﴾ الله -سبحانه وتعالى- لم يقل: سيعجب ربُّكم، لأن الله لا يعجب، الله فوق أن يعجب، لأنه ليس كمثله شيء، أما هناك عَجَبٌ من قولهم، هذا العَجب من عدم فهمهم لعَظَمَة الله عزَّ وجل.
﴿وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ﴾ فقولهم يدعو عندكم إلى العجب يا بني البشر ﴿وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ .
الخلق الأول دليل عظمته، والخلق الثاني دليل عدالته:
الحقيقة أن الخلق الأول دليل عظمته، والخلق الثاني دليل عدالته، لأن في الخلق الأول عظمةً ما بعدها عَظمة، هناك الفقير والغني، هناك القوي والضعيف، هناك الظالم والمظلوم، هناك الصحيح والمريض، فهذا المريض لو أنّ هذه الدنيا هي كل شيء أليس له على الله عَتَبٌ شديد؟ يا رب أنت الذي خلقتني، هذا الفقير الذي لا يجد قُوت يومه وكانت الدنيا هي كل شيء وانتهى الأمر، أليس له عند الله عتبٌ شديد؟ في الدنيا فقير، في الدنيا غني، في الدنيا ضعيف، في الدنيا قوي، في الدنيا ظالم، في الدنيا مظلوم، في الدنيا صحيح، في الدنيا مريض.
الخلق الأول لحكمةٍ بالغة، والخلق الثاني لتحقيق العدالة المُطلَقة.
الحساب على الجميع:
فالغني سيُحاسَب على غناه، والفقير سيُسأل عن صبره، والقوي سيُحاسَب عن قوَّته كيف استخدمها، أتعسَّف بها، والضعيف سيُسأل عن توحيده، والمريض سيُسأل عن صبره، والصحيح سيسأل عن قوَّته كيف استعملها.
(( لا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ؟ وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ؟ وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ؟ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ؟ وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلاهُ؟ ))
[ سنن الترمذي عن أبي برزة الأسلمي ]
﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ(92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ(93)﴾
[ سورة الحجر ]
﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) ﴾
[ سورة المؤمنون ]
جامعة، قاعات محاضرات، مكتبة ضخمة، حدائق، جهاز تدريسي من أرقى مستوى، مخابر كلَّفت ألوف الملايين، ليس هناك امتحان؟ هكذا ادخل إلى الجامعة، واخرج منها من دون امتحان؟ من دون مسؤوليَّة؟ مستحيل، لا يفعلها إنسان.
﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ(115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) ﴾
[ سورة المؤمنون ]
تعالى أن يخلق الناس عبثاً..
﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ( 16) ﴾
[ سورة الأنبياء ]
﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ۚ ذَٰلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ(27) ﴾
[ سورة ص ]
﴿ أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى(36)﴾
[ سورة القيامة ]
نحن في الدنيا في ظل الأنظمة الوضعيَّة، أيضرب إنسان إنساناً، أيقتله ويذهب إلى بيته هكذا؟ ليس هناك شرطة، ليس هناك دوائر مباحث جنائيَّة؟ هكذا ﴿أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى﴾ عند مخلوق لا تنجو، عند مخلوق محدود العلم لا تنجو، عند الخالق ؟! تأكل مال فلان، تنتهك عِرض فلان، تُخادع فلاناً، تغشُّ فلاناً، تحتكر هذه السلعة، تؤذي المسلمين، تأخذ أموالهم بغير حق وتُتْرَك سدى؟ هكذا ببساطة، بلا حساب، بلا مسؤوليَّة، بلا عذاب ؟
ليست العبرة أن ينجح جميع الطلاَّب في الجامعة، ولكن الشيء الرائع أن تتطابق النتائج مع المقدِّمات، هذا هو الشيء الرائع أن يكون هناك حسابٌ دقيق ﴿فوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ .
﴿ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا ۚ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132) ﴾
[ سورة الأنعام ]
﴿ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ ۙ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (32)﴾
[ سورة النحل ]
﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه(7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه(8) ﴾
[ سورة الزلزلة ]
إيمانك الصحيح أنك لو أنقذت نملة، أنك لو ابتسمت ابتسامةً بمقدار ثانية واحدة سخريةً من إنسان لحُوسِبْتَ عليها، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ:قُلْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( حَسْبُكَ مِنْ صَفِيَّةَ كَذَا وَكَذَا، تَعْنِي قَصِيرَةً، فَقَالَ: لَقَدْ قُلْتِ كَلِمَةً لَوْ مُزِجَتْ بِمَاءِ الْبَحْرِ لَمَزَجَتْهُ ))
[ الترمذي ]
كلمة قصيرة، فلان ما قلتُ شيئا، فلانة ما قلتُ شيئا، إنك تُحاسب على ذلك، أمتأكِّدٌ أنت أنها منحرفة؟ أعندك دليل؟ أجاءك أربعة شهود، أم أنها قصَّةً سمعتها فنقلتها؟
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
(( كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ ))
[ مسلم، أبو داود ]
لابدَّ من تمحيص.
حساب الدنيا قبل حساب الأخرة:
﴿وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ﴾ واللهِ الحساب في الدنيا قبل الآخرة، لو تتبعت أهل الدنيا وانحرافاتهم، ورأيت كيف أن الله -سبحانه وتعالى- يجازيهم عن أعمالهم في الدنيا قبل الآخرة لعجبت العجب العُجاب، أبداً.
﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)﴾
[ سورة النحل ]
﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى(124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا(125) قَالَ كَذَٰلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا ۖ وَكَذَٰلِكَ الْيَوْمَ تُنسَىٰ (126)﴾
[ سورة طه ]
يعني كنت أعمى في الدنيا ﴿أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى﴾ .
﴿ وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ ﴾
الإيمان بالله واليوم الآخر متلازمان:
﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ﴾ لأنهم كفروا بربِّهم أنكروا البعث، وكأن الإيمان بالله وباليوم الآخر متلازمان، إذا آمنت بالله تقتضي عدالته أن هناك يوماً آخر، إن لم تؤمن بالله تُنْكِرُ يوم البعث، لذلك من أركان الإيمان الإيمان بالله واليوم الآخر، أبداً، الإيمان باليوم الآخر من مستلزمات الإيمان بالله -عزَّ وجل-، كما أن الإيمان بالفحص من مستلزمات الجامعة، لا جامعة بلا امتحان، لأن هناك إلقاء محاضرات، وهناك تفاوت بين الطلاَّب في فهم هذه المحاضرات، تفاوت في الدوام، تفاوت في الفَهم، تفاوت في البذل، تفاوت في الجُهد، تفاوت في الدراسة، ما الذي يميِّز هذا التفاوت؟ الامتحان، فالامتحان شيءٌ لازمٌ للجامعة، كذلك اليوم الآخر لابدَّ منه في نهاية الحياة.
﴿وَأُوْلَئِكَ﴾ أي أن هؤلاء الذين يقولون: ﴿أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ﴾ .
لو عرفوا ربهم من خلال خلقه لما كفروا به:
لو أنَّهم عرفوا ربَّهم كيف أمدَّهم بالهواء، هذا الهواء نستنشقه نأخذ منه الأكسجين، ونطرح غاز الفحم، يأتي النبات فيأخذ غاز الفحم يُثَبِّت الفحم في الأوراق ويطرح الأكسجين، ومن أخذ الأكسجين وطرح غاز الفحم، وأخذ غاز الفحم وطرح الأكسجين ينشأ هذا التوازن في الأرض، وإلا لانتهى الأكسجين، لو فكَّروا في ربِّهم كيف خلق لهم الهواء بهذه النسب الدقيقة، وكيف جعلهم يتكاملون مع النبات.
لو فكَّروا في الماء كيف صفَّاه الله -عزَّ وجل- وحلاَّه، هو في البحر ملحٌ أُجَاج، وفي الينابيع ماءٌ عذبٌ فرات، لو فكروا في تخزين المياه..
﴿ وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22) ﴾
[ سورة الحجر ]
لو فكَّروا في ظاهرة النبات، النبات أكبر ظاهرةٍ في الأرض، أن تزرع حبَّةً فتصبح شجرة، لكن أين البرمجة؟ قال لي واحد: بذرة مبرمجة، قلت له: جميل، تعال أناقشك بهذا الموضوع، لو أردت إنشاء بناءٍ ضخم، وذهبت إلى أعظم المهندسين، ووضعوا لك مخطَّطاتٍ تفصيليَّة، مخطط للأساسات، مخطَّط للطابق الأول، للطابق الثاني، الثالث، الرابع، الخامس، هندسة نِسَب ومقاييس، وهندسة شكل ومظهر، وهندسة كهرباء، وهندسة مياه،... إلخ. وجمعت هذه الخرائط، وهكذا سُمْكها ضعها على أرض البناء، وانتظر كم سنة حتى يظهر البناء، نحن في عالَم الواقع، هل تكفي الخرائط المُبرمَجة التي فيها حسابٌ دقيق لهذا البناء، هل تكفي هذه الخرائط ليظهر البناء؟ تقول: لا إنه لا يظهر، نحتاج إلى ماذا؟ إلى مواد أوليَّة، ائتِ بهذه المواد الأوليَّة؛ ائت بالإسمنت، وبالحديد، وبالبلاط، وبالطلاء، وبكل شيء، دعه في أرض البناء، هل يظهر البناء؟ تقول: يد عاملة، إذا كان بناء فيحتاج إلى خارطة، ومواد أوليَّة، ويد عاملة، فهل تكفي بذرة مبرمجة أن تنبت شجرة ؟
بذرة التين كرأس الدبوس، هذه البذرة فيها رُشَيم، وفيها مواد مغذِّية للرُّشيم، والرُّشَيم حيٌّ، كيف تصبح هذه البذرة شجرة؟ حبَّة قمحٍ زُرِعَت فأنبتت ثلاث آلاف حبَّة رأيتها بأمِّ عيني، خمس وثلاثون سنبلة من حبِّة قمح واحدة، وكل سنبلة فيها ستون أو سبعون حبَّة، بذرةٌ واحدة، حبَّة قمحٍ واحدة أصبحت ثلاث آلاف حبَّة، فيَدُ مَنْ؟ المزارع يلقي الحبَّة في الأرض، ويذهب إلى البيت، من أودع في هذه الحبَّة هذه الحياة؟ من جعل الرُّشيم حينما جاءته الرطوبة ينبت له سُوَيقٌ دقيق وجُذَيرٌ دقيق، من جعل الجذر يتجه نحو الأسفل والسويق يتجه نحو الأعلى؟ ما هذا التوافق الدقيق بين انتهاء المواد الغذائيَّة في البذرة وإمكانيَّة الجُذَير أن يأخذ من التراب ما يحتاج؟ ما هذا التوافق العجيب؟ فالنبات ظاهرة.
فالهواء آية، والماء آية، والنبات آية، والحيوان آية، وهذه المخلوقات؛ الطيور، الأسماك، الأنعام، الإبل، الغنم، الماعز، البقر.
هذه البقرة لو أنَّ حليبها خلقه الله لوليدها فقط فإن وليدها يكفيه اثنان كيلو في النهار كله، البقرة تعطي ثلاثين كيلو حليباً، معنى هذا أن الحليب لنا خصيصى، خُلِقَ لنا..
﴿ وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً ۖ نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِّلشَّارِبِينَ (66) ﴾
[ سورة االنحل ]
أنت تأكل جبنة صباحاً ولبناً مصفَّى، قشطة، هذا كلُّه من الحليب، سمنة بلدي، من صمَّمه ؟ من صنعه؟ يدُ من صنعته؟
﴿أُوْلَئِكَ﴾ أي أن هؤلاء الذين يقولون: ﴿أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ هذا الذي يقول هذا ما فكَّر في ربِّه، لو فكر في رب العالمين، وكيف خلقه وأمدَّه لَمَا أنكر البعث والنشور.
﴿ وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ ﴾
وَأُوْلَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ
المعنى الأول: المجرم لا بد من تقييده بالأغلال:
﴿وَأُوْلَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ﴾ بعضهم وجَّه هذه الآية إلى يوم القيامة:
﴿ خُذُوهُ فَغُلُّوهُ(30) ﴾
[ سورة الحاقَّة ]
المجرم يُقيَّد.
﴿ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ(31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ(32)﴾
[ سورة الحاقَّة ]
هذا المعنى الأوَّل.
المعنى الثاني: الكافر مقيد بالشهوات:
المعنى الثاني: ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ﴾ هذا الكافر مقيَّدٌ بالشهوات، شهوته تذلِّه وتسحقه، هو عبدٌ لها.
(( تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ وَعَبْدُ الْخَمِيصَةِ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ ))
[ البخاري عن أبي هريرة ]
هؤلاء عبيد الشهوات، هناك رجل بعد أن هداه الله -سبحانه وتعالى- يقول: " كنت عبداً فأصبحت حرَّاً، وكنت حرَّاً فأصبحت عبداً " ، قيل له: فسِّر هذا الكلام، قال: " كنت عبداً لشهوتي فأصبحت متحرِّراً منها، ثم كنت حراً بمعنى أنني غير منضبط، فأصبحت عبداً لي ربٌّ، ولي منهجٌ أسير عليه "، " كنت عبداً فأصبحت حرَّاً، وكنت حرَّاً فأصبحت عبداً " .
﴿ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(5) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ ۗ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَىٰ ظُلْمِهِمْ ۖ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ(6)﴾
[ سورة الرعد ]
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ
استهزاء الكفار بوعيد الله:
﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ﴾ يستهزئون بوعيد الله سبحانه وتعالى، ليعذِّبنا ربُّك، أين العذاب؟ ليأتِ ﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ﴾ فإذا جاء العذاب رأيتهم يصرخون كالكلاب، لكنَّهم لجهلهم، الحيوان من صفاته أنه يخاف بعينه فقط، أي لا يخاف حتى يرى الخطر بعينه يخاف.
الإنسان العاقل يخاف بفكره لا بعينه:
أما الإنسان فكرَّمه الله -عزَّ وجل-، يجب أن يخاف بفكره، يجب أن يرى الخطر المتوقَّع قبل أن يقع الخطر، فالذي يخاف بعينه هذا متخلِّف، هذا ينتمي إلى صنف الحيوان، لا يخاف إلا إذا رأى الخطر، ما دام في صحَّة جيِّدة، ما دام في مال وفير هو مع شهواته يستعلي على الناس في الأرض، يأكل حقَّهم، يغتصب أموالهم، ينتهك حرماتهم، يعتدي على أعراضهم مادام فيه قوَّة، فإذا وقع في مرضٍ قلبيٍّ عُضال صار يعوي كالكلاب، يقول: أنقذوني، أين كنت ؟
يقولون: إن مَلَك الموت حينما يوضع الميت ويُغَسَّل يقول: " يا ابن آدم، أين سمعك؟ ما أصمَّك! أين ريحك؟ ما أفسدك! أين قوَّتك؟ ما أضعفك! ".
الموت فيه موعظة بالغة، لو أنك رأيت إنساناً مُمدداً على خشبةٍ المُغْتَسَل، جثَّةٌ هامدة، قبل قليل كان ملء السمع والبصر، أصبح حديثاً، أصبح نعوة على جدران الطرقات بعد أن كان ملء السمع والبصر.
﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ﴾ الإنسان تحت ألطاف الله -عزَّ وجل-، من يدري ماذا في بطنه، هؤلاء الذين اكتُشِفَ في بطونهم مرض خبيث هل كانوا يعلمون ذلك من قبل؟ دمٌ لو أنه انفجر في الدماغ لقضى على الإنسان في أربع ثوانٍ، شريان واحد لو انفجر في الدماغ، هذا القلب لو تعطَّل بعض دسَّاماته، هذه الشرايين لو تصلَّبت، هذا الضغط لو ارتفع، هاتان الكليتان لو تعطَّلتا، هاتان الرئتان لو أُصيبتا بذات الجَنب، هذا الكبد لو تشمَّع، هذه الحركة لو شُلَّت، هذا البصر لو ذهب، هذا السمع لو ذهب، هذا العقل لو اختل لأخذوه على القُصِير، أقرب الناس إليك يخافون منك، نعمة العقل، نعمة الصحَّة.
وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ الْمَثُلَاتُ
الدهرعبر وأمثال:
﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ الْمَثُلَاتُ﴾ أي العِبَر، كيف أن الله أهلك القرون من قبلهم؟ هذه القصص تحت سمعهم وأبصارهم.
كولومبيا دولة في أمريكا، فيها مدينة في سفح جبلٍ، الجبل مغطَّى بالثلوج، الجبل أخضر، المسارح، الفنادق، الشوارع، الحدائق، الحياة بأوجها، انفجر البركان، وذاب الثلج، وقُذِفت هذه المدينة بالحُمم البركانيَّة، خمسةٌ وثلاثون ألفاً قُتِلوا فوراً، أين الإنسان؟ أحياناً طائرة تحترق في السماء، وبسبب خلل بسيط وقد مات جميع ركَّابها، ثلاثمائة وخمسون راكباً، خلل بسيط في أجهزتها، نحن تحت رحمة الله ﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ الْمَثُلَاتُ﴾ .
وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ
آية غاية في الرجاء:
﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَىٰ ظُلْمِهِمْ ۖ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ قال بعض المفسِّرين: " هذه أرجى آيةٍ في كتاب الله ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ﴾ ليس القصد أن يحاسبهم، بل القصد أن يرحمهم، لذلك يمهلهم، لو أن القصد أن يحاسبهم لحاسبهم وقضى عليهم، وأهلكهم، وانتهى الأمر، ولكنَّ إمهالهم وحِلْمه عليهم من أجل أن يرحمهم، فلذلك إذا كان الإنسان في بحبوحة وهو يعصي الله فليرتقب العقاب، إذا كان الله يكرمك وأنت تعصيه فاحذره، لأن الكيل قد طفّ، جاوزت الحد.
إلى متى أنت باللذَّات مشغولُ وأنت عن كل ما قدَّمت مسؤولُ
تعصي الإله وأنت تُظْهر حبَّه ذاك لعمري في المقال بديــعُ
لو كان حبُّك صادقاً لأطعتـه إن المحبَّ لمن يحبُّ يطيـــع
[ الإمام الشافعي ]
*****
أيا خجلتي منه إذا هو قال لي أيا عبدنا ما قرأت كتابنا ؟
أما تستحي منَّا ويكفيك ما جرى أما تختشي من عتبنا يوم جمعنا
أما آن أن تقلع عن الذنب راجعاً وتنظر ما به جاء وعدنا
[ علي بن محمد بن وفا ]
إلى متى أنت ؟
عندي لك الصلح وهو بري وعندك السيف و السِنـانُ
ترضى بأن تنقضي الليالي وما انقضت حربك العوان
تستحي من شيبةٍ تــراها في النار مسجونةً تــهانُ
***
﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ﴾ .
المغفرة مقيدة بالتوبة:
هناك علماء قيَّدوا هذه الآية فقالوا: ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ﴾ إذا تابوا، وإذا عادوا، وإذا أنابوا، وإذا أقلعوا، وإذا ندموا، وإذا اتصلوا، وإذا بذلوا.
﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ إذا أصرُّوا، أي لا تأخذها بفهم ساذج ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ﴾ .
(( وَمَنْ لَقِيَنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطِيئَةً لَا يُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَقِيتُهُ بِمِثْلِهَا مَغْفِرَةً ))
[ مسلم عن أبي ذر ]
بشرط أن تأتيني، أن تعود إلي، أن ترجع إلي، أن تُقْبِل علي، أن تتوب من ذنبك.
لكن احذر وأكمل الآية: وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ
أما إذا أصررت: ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ ويعاقبك من أجل أن يرحمك، من أجل أن تعود إليه قسراً بعد أن أبيتَ أن تعود إليه طوعاً.
﴿ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ(7) ﴾
[ سورة التوبة ]
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ
السفيه يسأل عن الآيات وهي تحت سمعه وبصره:
يا سبحان الله! الآيات في الأرض وفي السماوات لا تُعَدُّ ولا تحصى..
﴿ وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ(20) ﴾
[ سورة الذاريات ]
أنت آية، خلقك آية، ابنك آية، زوجك آية، طعامك آية، شرابك آية، الطير في السماء آية، السَمَكُ في البحر آية، البحر آية، النهر آية، الجبل آية، الصحراء آية، الغَوْرُ آية، السَهْل آية، الشمس آية، القمر آية، الجراثيم آيات من آيات الله، الأمراض..
وفي كل شيءٍ له آيةٌ تدلُّ على أنه واحدٌ
***
مدرِّس مثلاً كتب نظريَّة على السبورة، وبرهن عليها بثلاثين برهاناً، بعد أن انتهى من إلقاء المحاضرة رفع طالب أصبعه، وقال له: يا أستاذ، ما البرهان على صحَّة هذه النظريَّة؟ أي برهانٍ هذا ؟
يروى أن الإمام أبا حنيفة -رضي الله عنه- كان يدرِّس طلابه في بعض المساجد، والدرس كان عن صلاة الفجر، وكان في رجله مرضٌ، وكان يمدُّها بالإذن من تلاميذه، دخل شيخٌ مُعمَّم طويل القامة، عريض المنكبين، فاستحيا منه أبو حنيفة فرفع رجله مكابراً، فجلس هذا الشيخ الوقور في مجلس هذا العالِم الجليل، تحدَّث عن صلاة الفجر، وعن الفجر الصادق والكاذب، وعن الصلاة في غَلَس أو في سَحَر.. وإلخ، بعد أن انتهى الدرس رفع إصبعه هذا العالِم الشيخ المُعمَّم الوقور، وقال له: يا سيدي، كيف نصلي الصبح إذا طلعت الشمس قبل الفجر؟ فقال أبو حنيفة: " عندئذٍ يمدُّ أبو حنيفة رجله".
الكون معجزة:
يعني كل هذه الآيات ﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ﴾ الكون هو المعجزة، وليس خرْق آيات الله في الأرض هو المعجزة، الكون هو المعجزة، فأنت أحياناً أمام آلة ضخمة جداً تُؤخَذ بها فتقول: ما أعظم الذي صنعها! أو تقول: إن كانت هذه الآلة عظيمة شغِّلوها بلا طاقة، هذا كلامٌ فارغ، مع أن هناك مأخذاً للطاقة فعظمتها فيها، فخرق القوانين ليس هو المعجزة، الكون بحدِّ ذاته في حالته الطبيعيَّة، في حالته الراهنة هو المعجزة، في خلق الإنسان ليست المعجزة أن تمرض فتشفى المعجزة كيف لا تمرض، الإنسان عندما يقول: أنا اليوم صحَّتي طيّبة، معنى هذا أنه هناك آلاف الأجهزة تعمل بانتظام.
فكر في جسمك لترى عظمة الله:
مرَّة رأيت كتاباً في مكتبة فيه حوالي ألفَا صفحة، عنوانه بسيط هو: ( أمراض الدم )، معنى هذا بالتحليل عندك ثلاثة وعشرون بنداً؛ الشحوم الثلاثيَّة، والكولسترول، والبولة... إلخ، وكل مادَّة لها نسب معيَّنة، حد أدنى، حد أقصى، حد مرضي، حد خَطِر، حد غير خطر، الدم فقط عالَم قائم بذاته.
الأمراض العصبيَّة، أمراض العضلات، أمراض جهاز الهضم، أمراض المعدة، أمراض الاثنا عشر، أمراض البنكرياس "السكر" أمراض الكبد، أمراض الجهاز التنفسي، أمراض القلب، وعن القلب قرأت كتاباً شيء يحيِّر العقول، دسَّاماته، والأذينين، والبطينين، والشريان الأبهر، والتوتر الشرياني، وأسباب التوتر الشرياني، إذا قلت: ما بي من مرض فأنت المعجزة، على قدر ما هنالك من أجهزة تعمل بانتظام وتنسيق.
إذا رأى أحد حيَّة فما الذي يحصل؟ العين تنطبع عليها صورة الأفعى، هذه الصورة تنتقل إلى الدماغ، الدماغ يدرك أن هذه أفعى خطِرة، يعطي الدماغ خبراً للغدَّة النخاميَّة عن طريق وسيطٍ بين الدماغ والغدَّة النخاميَّة، الغدَّة النخاميَّة مَلِكة الجهاز الهرموني تعطي أمراً إلى الكظر بأن هناك خطراً فتصرَّف، الكظر يصدر أمراً هرمونيَّاً بتسريع ضربات القلب أول شيء، فإذا خاف إنسان يصير قلبه يدق مائة وأربعين دقَّة من دون أن يشعر، الكظر يصدر أمراً هرمونياً بتضييق لمعة الشرايين، جميع الشرايين في الإنسان حولها أعصابٌ إذا تنبَّهت ضيَّقت لمعتها، فإذا ضُيِّقت لمعتها اصفرَّ الإنسان، من أجل أن يُوفَّر الدم للعضلات، الآن لا تحتاج إلى خد وردي، الآن يريد أن ينجو من هذه الأفعى، فلذلك أول أمر لتضييق لمعة الشرايين يصفر الخائف.
الأمر الثاني تسريع القلب، لأن النبض السريع يحرِّك الدم بسرعة في الشرايين، سيارة إسعاف، وتمشي بسرعة الخمسة والعشرين؟ هذا لا يجوز.. فالقلب ينبض بسرعة، والشرايين تضيق لمعتها، يصدر أمراً هرمونياً ثالثاً للرئتين فيزداد خفقان الرئتين كي تتوافقا مع القلب من أجل التصفية، تصدر أمراً رابعاً بتحرير كميَّة إضافيَّة من السكر في الدم، لو فحصت دم خائفٍ تجد فيه سكراً بنسبٍ مرتفعة، أنت ما عندك علم فقط رأيت أفعى، أو عقرباً، أو إنساناً معه سلاح، أو سيارة كادت أن تصطدم بك، تجد القلب دقَّ مائة وأربعين دقَّة، صارت حركة الرئتين سريعة، اصفرار، الدم فيه سكَّر، أنت آية، وأنت في حالتك الطبيعيَّة آية ﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ﴾ .
إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ
المعنى الأول:
﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرٌ﴾ أي أن وظيفتك يا محمَّد تنتهي عند التبليغ، وفي بعض التفاسير: الله هو الهادي.
﴿وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾ فهذا يهتدي بمرضٍ عُضال، هذا يهتدي بسجنٍ طويل، هذا يهتدي بالتعذيب، هذا يهتدي بالفقر، هذا يهتدي بالذل، هذا يهتدي بالإكرام، هذا يهتدي بالمُهتدي، هذا يهتدي بالسَّمَاع..
﴿وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾ هذه بعض المعاني.
المعنى الثاني:
المعنى الآخر: كل قومٍ لهم من يهديهم وَفْقَ طريقتهم، ووفق مقاييسهم في الحياة، ففي عصر العلم يحتاج الذي يتصدَّى لهداية الناس إلى مزيدٍ من العلم، يحتاج أن يستخدم سلاح العصر، وفي عصر السحر جاء موسى بالسحر، وفي عصر الطِّب جاء سيدنا عيسى بالطب، وفي عصر البلاغة جاء النبي -عليه الصلاة والسلام- بهذا الكتاب المُعْجِز..
﴿وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾ كل قومٍ لهم هادٍ يناسب قيمَهم وطباعهم ومقاييسهم في الحياة.
اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى
انظر إلى موقع (ما) في هذه الآية لتفهم معناها:
﴿ اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ(8) ﴾
[ سورة الرعد ]
لم يقل الله -عزَّ وجل-: الله يعلم من تحمل، هناك مشكلة يقولون لك: إن العلماء قد توصَّلوا إلى معرفة جنس الجنين أذكرٌ هو أم أنثى؟ الله -سبحانه وتعالى- يقول: ﴿اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى﴾ لم يقل: مَنْ ذكر أم أثنى، قال: ما، أي تحت هذا الحرف تنضوي معانٍ كثيرة، هذا المولود ذكرٌ أو أنثى، وسيمٌ أو دميم، ذكيٌّ أو غبي، مليحٌ أو قبيح، مُصلِحٌ أو مُفسِد، فهذه أسئلة كثيرة جداً، يشبه أباه أو لا يشبهه، قالوا: في العُرَى الملوَّنة "الكروموزونات" أوامر بتخليق الإنسان، هذه الأوامر لو كُتبت على ورق لضاقت بها أكثر الكتب أو الموسوعات اتساعاً، هناك أوامر دقيقة، تجد طفلاً شعره كثيفٌ في ظهره، هذا أمر، وجهه مستطيل، مربَّع، دائري، على شكل كُمثرى، على شكل كرة، على شكل صندوق، شعره كثيف، خفيف، أسود، خرنوبي، كَستناوي، أشقر، جَعِد، سَبِط، حاجباه، عيناه، خدُّه، فمه، لسانه، نبرة صوته.
فهناك دقائق دقيقة جداً لا يعلمها إلا الله، الله وحده يعلم ما تحمل كل أثنى، موضوع ذكر أو أنثى موضوع تافه جداً إذا قيس بما تعنيه هذه الآية: ﴿اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى﴾ وعلى وجه اليقين لا أحد يعلم.
معنى: وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ
﴿اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ﴾ الرحم إذا غاضَت أي انقطع منها دم الحيض، أي صار هناك حمل، أو يزيد هذا الدم بعد الولادة.
﴿تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ﴾ كنايةٌ عن الحمل، أو تغيض الأرحام لا تحمل فتكون عقيمةً، أو تزداد فتلد التوائم، كلاهما يصحُّ في هذه الآية.
﴿ اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ(8) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ(9) ﴾
[ سورة الرعد ]
أي أن فلاناً جاء بأولاد ذكور، بأولاد إناث، فلان عقيم، فلان أنجب ولداً واحداً ثم توفي، أنجب ولداً ذكيَّاً وولداً أقلَّ ذكاءً، ولداً مُصلِحاً ولداً مُفسِداً.
عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ
لا يعلم الغيب إلا الله:
﴿وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ*عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ﴾ لا يعلم الغيب إلا الله، عالِمُ الغيب، ما سيكون، النبي -عليه الصلاة والسلام- قال الله عنه:
﴿ قُل لَّا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ ۖ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ ۚ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ ۚ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (50) ﴾
[ سورة الأنعام ]
﴿ قُل لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ ۚ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ ۚ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188) ﴾
[ سورة الأعراف ]
الله هو الكبير المتعالي في العظمة:
﴿عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ﴾ متعالٍ في عظمته، مهما تحدَّثت عن عظمته فهو أعظم، مهما عرفت من كماله فهو أكمل، مهما عرفت من قدرته فهو أقدر، مهما عرفت من رحمته فهو أرحم، مهما عرفت من لطفه فهو ألطف.
﴿الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ﴾ أي المتعالي، سبحانه وتعالى، تعالى عن أن يشبه أحداً من خلقه، ليس كمثله شيء.
سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ
الله يعلم العلن والسر وأخفى:
﴿ سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ(10)﴾
[ سورة الرعد ]
أي إذا كان هناك فكرة أبقيتها في ضميرك، أو نطقت بها، أخفيتها أو أعلنتها، أسررتها أو أظهرتها.
من هو المستخفي بالليل و السارب بالنهار:
﴿سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ﴾ أي يتوارى عن الأنظار.
﴿وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ﴾ يمشي في الطريق، هكذا من دون خوف، من دون وجل، أي أن هذا المستخفي في علم الله، وهذا الذي لا يستخفي في علم الله، هذا الذي يُسِرُّ أمراً في علم الله، وهذا الذي يفضحه في علم الله.
﴿سَوَاءٌ مِنْكُمْ﴾ أي أن عند علم الله سواء، أأخفيت أم أسررت، أعلنت أم أظهرت، صرَّحت أم أشرت، سواءٌ بسواء.
لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ
﴿ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ۗ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ ۚ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ (11) ﴾
[ سورة الرعد ]
هذا الإنسان الذي أسرَّ القول أو جهر به، أو الذي استخفى بالليل أو ظهر بالنهار.
كل إنسان معه ملائكة تتعقب أعماله:
﴿لَهُ﴾ أي أن الله -سبحانه وتعالى- قَيَّض له، قيَّض لهذا الإنسان ملائكة تتعقَّب أعماله ﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ﴾ أينما ذهب، وأينما جلس، وأينما سافر، أينما حلّ، وأينما ارتحل، من عن يمينه، من عن شماله.
يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ
معنى الحفظ من أمر الله:
﴿مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ﴾ هذه لها معنيان، إما أنهم يحفظون عمله، أو أنهم يحفظونه من الحفظ ـ هذا أجله لم ينته، يُحْفَظ من أي حادث، يقول لك: كنت سأموت، لا تموت، يحفظونه إما أنه حفظ العناية، أو حفظ الرَقابة ﴿يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ﴾ هؤلاء الملائكة من أمر الله يحفظونه.
إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ
﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ۗ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ ۚ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ﴾
﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾ نحن جميعاً نُحِبُّ أشياء ونكره أشياء، فإذا أطعنا الله -عزَّ وجل- أعطانا ما نحبُّ، وصرف عنَّا ما نكره، وإذا عصينا الله -عزَّ وجل- زوى عنَّا ما نحب، وساق إلينا ما نكره لذلك:
(( يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَسَأَلُونِي، فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ، يَا عِبَادِي، إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فلا يَلُومَنَّ إِلا نَفْسَهُ ))
[ صحيح مسلم: عن " أبي ذر ]
فإذا أطعنا الله -عزَّ وجل- ساق لنا ما نحب، وصرف عنَّا ما نكره، وإذا عصيناه ساق إلينا ما نكره، -وما أكثر ما نكره-، وصرف عنَّا ما نحب، وكما جاء في الحديث القدسي:
(( أنا ملك الملوك، ومالك الملوك، قلوب المُلُوك بيدي، فإن العباد أطاعوني حوَّلت قلوب ملوكهم عليهم بالرأفة والرحمة، وإن العباد عصوني حوَّلت قلوب ملوكهم عليهم بالسخطة والنِقْمَة، فلا تشغلوا أنفسكم بسبِّ الملوك، وادعوا لهم بالصلاح فإن صلاحهم بصلاحكم. ))
[ رواه الطبراني في الأوسط وهو ضعيف جداً ]
هذه الآية تحل آلاف المشكلات: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ﴾ .
﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ(112) ﴾
[ سورة النحل ]
غيّر ما بك حتى يغير الله:
﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾ الله لا يغيِّر حتى تغيِّر؛ إذا كنت في بحبوحة، وفي سعادة، في وِفاق زوجي، في عمل مريح دخله كبير، ولم تُغيِّر، بقيت مستقيماً على أمره، شاكراً لهذه النِعَم، مجاهداً لنفسك وهواك، الله لا يغيِّر، من حسنٍ إلى أحسن، وإن كان الإنسان في ضائقة، في مشكلة، في أزمة، فالله -سبحانه وتعالى- لا يزيح عنه هذه الأزمة حتى يغيِّر، حتى يتوب.
الآية لها معنيان متعاكسان: إن الله لا يغيِّر حتى تغيِّر، لا يغيِّر من حَسَن إلى أسوأ حتى تغيِّر من طاعة إلى معصية، ولا يغيِّر من سيئ إلى حَسَن حتى تغيِّر من معصية إلى طاعة، لا يغيِّر حتى تغيِّر، أنت الأصل، غيِّر ليغيِّر، لا تغيِّر لا يغيِّر:
﴿ إِن تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ ۖ وَإِن تَنتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَإِن تَعُودُوا نَعُدْ وَلَن تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19) ﴾
[ سورة الأنفال ]
﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ ۖ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ۚ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5) ﴾
[ سورة الصف ]
القضيَّة واضحة كالشمس ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾ إذا ما غيَّروا ما بأنفسهم.
وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ
لا أحد يضر إلا بإذن الله:
﴿وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ﴾ لو أن أهل الأرض اجتمعت على أن يمنعوا عنك شيئاً قدَّره الله عليك لا يستطيعون.
فرعون رأى في المنام أن طفلاً من بني إسرائيل سوف يقضي على مُلكه، فأمر بقتل أطفال بني إسرائيل كلِّهم، أما الذي سوف يقضي على مُلكه ربَّاه في قصره.
﴿ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا ۗ إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8) ﴾
[ سورة القصص ]
﴿وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ﴾ لأتفه الأسباب تدفع أبهظ الأثمان، لأتفه الأسباب، بغلطة، أحياناً ترى إنساناً سها فصار في حالةٍ يرثى لها في الطريق، غفل فنام، سيارته، أولاده، زوجته، هذه ميتة، وهذه فيها كسر، وهذه في المستشفيات، سهوة خفيفة، لأتفه سبب تدفع أبهظ ثمن.
يؤتى الحذر من مأمنه:
﴿وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ﴾ إن الله تعالى إذا أحب إنفاذ أمر سلب كل ذي لب لبه، " يؤتى الحذر من مأمنه" يجعل الله تدميره في تدبيره، يفكِّر فيفكِّر فيفكِّر، ويدبِّر ويدبِّر ويدبِّر، فيكون هلاكه في هذا التدبير.
أغنى أغنياء العالَم روتشلد اليهودي عنده مستودع ضخم للذهب -سبائك الذهب- كانت الحكومة البريطانيَّة تقترض منه أحياناً، دخل إلى المستودع فأُغْلِقَ باب المستودع وراءه، صاح ولم يسمعه أحد، أمضى أيَّاماً ثلاثة في داخله، أوشك على الموت، فجرح أصبعه وكتب على الجدار: " أغنى رجل في العالَم يموت جوعاً "، مات جوعاً.
﴿وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ﴾ تسمع خبراً أن هذه الطائرة احترقت ومات كل ركَّابها، باب الطائرة لم يكن مغلقاً إغلاقاً مُحكَماً، أو الجهاز الفلاني تعطَّل.
﴿وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ﴾ أحياناً مزرعة تكون تكلِّفتها خمسمائة ألف.
﴿ فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ(19) ﴾
[ سورة القلم ]
خلال دقائق يصيبها صقيع فتحترق كل الثمار..
﴿ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ(266)﴾
[ سورة البقرة ]
فالإنسان ﴿وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ﴾ هذه الآيات تكفي.
﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ۗ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ ۚ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ﴾
والحمد لله رب العالمين.